لا ريب أنّ المعرفة بالله تعالى إذا كانت على نحو الوقوف الصوريّ الساذج فستكون ضئيلة جداً وربّما معدومة، وإذا ما كانت هناك جملة من الآثار التوفيقية التي تحيط بالإنسان الصوريّ في معرفته فذلك نتاج العناية العامّة لله سبحانه بخلقه.
ومعنى المعرفة الصورية الساذجة هو أن يعرف بوجود الله تعالى وبوحدانيته وبجملة من أسمائه وصفاته ولكن دون إقامة دليل على ذلك، بل هو تقليد أعمى وسلوك جمعيّ يسوق عامّة الناس إلى ذلك.
وما نراه في المقام هو أنّ دائرة هذه المعرفة الصورية الساذجة محدودة؛ إذا لاحظنا الدليل الفطري الذي يتحرّك في ضوئه عامّة الناس إن كانوا ملتفتين إلى ذلك، وإلا فالدائرة كبيرة جدّاً في صورة عدم الالتفات إلى النداءات والدلائل الفطرية.
فإن حصل الالتفات منهم فإنّهم سوف يُمثّلون مرتبة معرفية من مراتب الوقوف الثاني التحقيقي.
وأمّا الوقوف الثاني التحقيقي البرهاني فإنّ الآثار المترتّبة عليه كثيرة ومنتجة في الجملة لا بالجملة ، وهذا النتاج الجزئي ينسجم مع طبيعة هذا الوقوف والنمط المعرفي الذي قلنا في أكثر من مورد أنّه لا يشكّل ضمانة لصاحبه، وإن كان يشكّل الحدّ الأدنى من المعرفة الواجبة على كل إنسان، فإنّ هذا الوقوف الصوريّ وإن كان تحقيقياً إلا أنّ أثره الوضعي على الإنسان يبقى محدوداً وغير موجب للعمل، أي: إنّه لا يبعث صاحبه على الفعل المناسب والمطابق للصورة المبرهن عليها، ولذا تجد من أصحاب هذا النمط المعرفي من يرتكبون الذنوب المختلفة.
إنّ المعرفة النظرية التحقيقية لا تكون موجبة للإيمان ولا ملزمة له، ولذا فقد يكون الشخص من الناحية الفطرية يثبت عنده وجود الله تعالى ووحدانيته ولكن لا يؤمن بذلك، أو يسلك في منحاه العلمي غير ما انتهى إليه نظرياً.
لذا فالشرك في الأسماء والصفات والشرك العملي مصدرهما هو أنّ المعرفة النظرية وإن كانت مثبتة للعارف نظراً وجود الذات المقدسة ووحدانيتها وإثبات أسمائه وصفاته الذاتية إلا أنّه لم يصل في درجة إيمانه إلى نفي الأغيار عن ساحة التأثير، فيقع في الشرك العملي، وما الرياء ـ وهو الشرك الخفي كما عرفت ـ إلّا نموذج من نماذج الشرك العملي، لأنّه يرجع إلى الاعتقاد بوجود غيرٍ استحقّ منه الالتفات إليه.
فلو كانت المعرفة النظرية موجبة وملزمة للإيمان لما وقع الإنسان في مثل هذه المتاهات المفضية للشرك العملي كالرياء والكذب والنفاق والجحود. فالكاذب إنّما يلجأ لذلك لاعتقاد مسبق منه بأنّ الكذب سوف يكون منقذاً له، وهذا شرك عمليّ، والنفاق رغم أنّه منافٍ للإيمان تماماً إلّا أنّه شرك هو الآخر إذا لم يكن في دائرة العقائد والإلهيات، وإلاّ فهو الكفر الصراح. وأمّا وقوعه في السلوك العملي ـ كإظهار شخص النصيحة لك وهو يدسّ لك في الباطن، وإظهار الحبّ لك وهو مبغض ناقم عليك، يدعو لك ظاهراً بالسلامة والحفظ وهو يرجو فعلية زوالك وهلاكك ـ فهذا النمط هو الآخر شرك خفيّ، لأن صاحبه يعتقد أنّ ما أظهره سوف يكون منجياً له ومقرّباً له من ودّك وحبّك وعطائك، فيدلّس عليك بشعور منافق كذّاب. وما أكثر هذه الطبقة البغيضة وأسوئها، ففي كلّ آن ومكان نجد من يظهر المودّة والحبّ لأهل البيت عليهم السلام، ولكنّهم في سرّهم ونجواهم يضمرون شيئاً آخر ظلماً وجوراً وعدواناً، فـ بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لـَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، قد أُمروا بمودّة أهل البيت عليهم السلام بنصّ القرآن الكريم: قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ولكنّهم ودّوا مُبغضيهم وغاصبي حقوقهم، بل قاتليهم أيضاً.
روى الهيثمي عن ابن عباس لما نزلت الآية، قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليٌّ وفاطمة وابناهما، فقل لي بربّك كيف تجتمع مودّتهم الواجبة قرآناً وسُنّةً مع الترحّم والترضّي على مناوئيهم وقاتليهم؟!
وهكذا حال الجحود الموجب لظلمة القلب، فقد قام الدليل القطعي عندهم على المعارف التوحيدية والحقائق الأخروية، وقام الدليل القطعي أيضاً على نبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وولاية أهل البيت عليهم السلام، ولكنّ اليقين الحصولي لم يحتّم عليهم الإيمان بما ثبت لديهم، فغلبتْهم شقْوتهم، فمنهم من أنكر المعارف التوحيدية، وهذا هو الكفر والشرك الصراح، ومنهم من أنكر نبوّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، وهذا هو الضلال المبين، ومنهم من أنكر ولاية وإمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فأبدلوا الطاعة بالعصيان، والقبول بالردّ.
إنّ حقيقة التوحيد ونبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وإمامة أهل البيت عليهم السلام توجب على من وقف على الدليل الطاعةَ والالتزام، ولكننا نرى من وقفوا على ذلك ولم يأخذ بأعناقهم الدليل، وما ذلك إلّا لأنّ المعرفة النظرية الحصولية لا تستبطن ضمانة الاتّباع وإن كانت تدعو لذلك، فمن الممكن جدّاً ـ بل الواقع كثيراً ـ اجتماع الجحود والخلاف مع الاعتقاد واليقين؛ قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ.
فالمعرفة الحصولية التحقيقية لها أثر صوريّ على صاحب المعرفة يدعوه إلى الامتثال والطاعة ولكنّه لا يأخذ بعنقه نحو الجادّة لأنّه لا يمثّل وجوداً تكوينياً فاعلاً في النفس العارفة.
وأمّا فيما يتعلق بالوقوف الثالث وهو المعرفة التحقيقية الشهودية، فإنّها تختلف تماماً من حيث المتابعة والأثر، فإنّ الواقف شهوداً تترتّب على معرفته هذه من الآثار الجليّة ما يصعب وصفها وحصرها، وكفى بتميزها عمّا سبق من الآثار المعرفية أنّها تأخذ بعنق العارف نحو الطاعة والامتثال. والذي نعتقده في المقام هو عدم الانفكاك بين الأثر والمؤثّر، فالمعرفة
ـ وهي المؤثّر ـ لا تنفكّ البتّة من أثرها، بل ما نعتقده هو أبعد من ذلك، وهو أن أثر المعرفة نفسه يمثّل مرتبة معرفية، لأنّه أثر وجوديّ فاعل في الذات العارفة.
إنّ المعرفة الحضورية والشهود الباطني يعني تحوّل الإنسان العارف إلى وجود قويّ خيريّ محرّك لطاقاته باتجاهات الكمالات المطلقة، بل نحو المطلق نفسه جلّت قدرته، وبهذا التحوّل يكون الإنسان قد ولج أبواب العصمة ليتحوّل بذلك بعد مراتب معرفية ارتقائية من دائرة المخِلصين (بكسر اللام) إلى دائرة المخلَصين بالفتح.
وإذا عرف الإنسان ربّه تحقّقاً فسوف تغلق دونه جميع دوائر الشرك، وتغلق أيضاً دونه جميع دوائر الفقد، وفي ذلك ترجمة خفيّة لقول الله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. فالإنسان مفطور على حبّ الخلود والبقاء، فهو يشتهي ذلك بقوّة.