ولازم الخلود إغلاق دائرة الفقد وإتمام دائرة الوجدان. إنّ المعرفة الحقّة بالله تعالى تورثه حقيقة كونية خالدة، وهي حقيقة الاكتفاء بالله تعالى، فلا يطلب به بدلاً ولا يرغب عنه حولاً، ولا يُبقي في عرضه ولا في طوله شاغلاً. وهذا المعنى العميق الدقيق قد ترجمه لنا عملياً رائد التفاني في الله تعالى الإمام الحسين بن علي عليهما السلام بقوله الشريف وهو يناجي ربّه في عرصات عرفة: ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى دونك متحوّلاً.
لهم فيها ما يشتهون، فلا فقد ولا نقص أبداً، إنّما الوجدان سرمداً. إنّه تحوّل جوهريّ في حركة الإنسان الوجودية حيث يتحوّل فيه العبد إلى موحّد حقيقيّ بعد أن عرف حقيقة التوحيد التي كان يعيش صورتها قبل التحقّق المعرفي ويقبع في دوائرها الذهنية المغلقة.
بعبارة أخرى: إنّه تحوّل من دائرة الشرك الظاهري والخفيّ إلى دائرة التوحيد الحقيقي الحقّي والذي به سيعرف تجلّيات سورة الحمد في (رَبِّ العَالمَين) و مَالِك يَوْمِ الدِّين.
إنّه تحوّل من دائرة الأثر المقيّد إلى إطلاق الوجود العيني، ونعني بالأثر الوجودَ الشبحيَّ لحقيقة الإنسان حيث كان قبل التحقّق المعرفيّ بالله تعالى متلبّساً بصورة الإنسان الحقيقي، ومشتملاً على بعض آثاره المحدودة جدّاً، وهذا هو الوجود الشبحيّ له ليتحوّل بالتحقّق المعرفي إلى الوجود الحقيقي والفعلي للإنسان الخليفة قرآنياً والإنسان الكامل عرفانياً.
بعبارة ثالثة: إنّه تحوّل من الإنسان الناقص القاصر إلى الإنسان الكامل الراشد، ومن الجملة الناقصة التي لا يحسن السكوت عنها إلى الجملة التامة التي يحسن السكوت عنها ويصحّ الإخبار بها عن الحقيقة المطلقة المقدّسة.
نعم إنّه التحوّل الكينوني الذي يدرك بواسطته الإنسان العارف الكامل الحقّي من هو المبتدأ وما هو الخبر، ومن هو الفاعل الذي كان ولم يزل كما كان في الأزل متوحّداً في الوجود والتأثير، ويدرك معه أيضاً ما هو المفعول والأثر.
نعم سيدرك آنذاك أنّ الحقيقة واحدة لا غير أزلاً وأبداً، قد تجلّت بصور مختلفة، فإذا ما وقف الواقف الحقّي على حقيقة الشؤون يكون قد تجلّت في قلبه الطاهر حقيقة قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، ومعنى المرآتية المشيرة إلى الوجود الواحد الأحد.
وما الوجه إلاّ واحد غير أنّه إذا أنت أعددتَ المرايا تعدّدا
فتلخّص إلى هنا أنّ أثر المعرفة بالله على مستوى السلوك الشخصي بلحاظ الوقوف الأول كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
وأما أثرها بلحاظ الوقوف الثاني فإنّه وإن كان ملحوظاً وذا قيمة معتدّ بها إلاّ أنّها محفوفة بالمخاطر وسهلة الانفكاك في إطارها الإيجابي عن ذي المعرفة، كما أنّها معرفة صورية تبقى قاصرة عن جلب الحقيقة أمام طالبها، ولذا يبقى العارف حصولاً عرضة الشك والتردّد؛ لعدم وقوفه على ذي الصورة.
ومن هنا نفهم لماذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً؛ ذلك لأن الحقيقة حاضرة عنده كما أنّه حاضر عندها، فذلك اليقين المتحقّق به يقين لدنيّ لا يقين حصوليّ، ومن حصل على اليقين اللدنيّ في مورد فإنّه لا توجد مرتبة معرفية فوقه أو هو دونها في دائرة الإمكان.
إنّ موارد الحاجة إلى الحضور والشهود لهي أعظم وأجلّ وأكثر من موارد الحاجة إلى الحصول، وهذه حقيقة حقّة يصعب قبولها من السواد الأعظم من الناس؛ نظراً لتمحّضهم في الغياب واليباب، وعزوفهم بالاضطرار أو بالاختيار عن فيض وإشراق ربّ الأرباب.
إنّ الحصول في مورد الحضور يكون جهلاً محضاً ربّما يقتل صاحبه، كما عبّر عن ذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام: رُبّ عالم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه، فذلك عالم حصولاً قتله جهله حضوراً، ولذا فعلمه الذي معه أعجز منه لا ينفعه.
ومن أراد أن يلج موارد الحضور بآلية الحصول يكون قد خالف الحكمة فوضع الشيء في غير موضعه، فلا أثر الحصول جنى ولا من عالم الحضور دنا، بل كان من الجهل والجهالات قاب قوسين أو أدنى. وأمّا أثرها بلحاظ الوقوف الثالث فهو الغاية والمنتهى الإمكاني حيث يتحوّل كل ما بالقوّة في العبد إلى الفعلية الحقّة على نحو الدفعية أو على نحو التدريج، فيصير العبد في كلّ حركاته وسكناته إلهياً ووليّاً من أولياء الله تعالى، يطوي سجلّ الشقاء، ويتحقّق بدار السعادة واللقاء، وذلك هو العطاء غير المجذوذ (أي غير المقطوع) يتحوّل في ظلاله العبد إلى معنى تامّ يحسن السكوت عليه. (السید کمال الحیدری)