عرفنا آنفاً أن الاتجاه المادّي والاتجاه العقلي وإن اتفقا على أن المعرفة تمرّ بمرحلتين هما: مرحلة لتجميع معطيات الحسّ والتجربة، ومرحلة لتفسيرها نظرياً وعقلياً، غير أنهما اختلفا على نوع التفسير الذي يستنتج عقلياً في المرحلة الثانية. وهنا نحاول الوقوف على نموذج من الدليل الفلسفي لإثبات الصانع وموقف الاتجاه المادّي منه.
الدليل الفلسفي: يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التالية:
أولاً: على البديهة القائلة: إن كلّ حادثة، لها سبب تستمدّ منه وجودها. وهذه قضية يدركها الإنسان بشعوره الفطري ويؤكّدها الاستقراء العلمي باستمرار.
ثانياً: على القضية القائلة: كلّما وجدت درجات متفاوتة من شيء ما بعضها أقوى وأكمل من بعض، فليس بالإمكان أن تكون الدرجة الأقلّ كمالاً والأدنى محتوىً هي السبب في وجود الدرجة الأعلى. فالحرارة لها درجات والمعرفة لها درجات والنور له درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يمكن أن تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان معرفة كاملة باللغة الإنجليزية من شخص لا يعرف منها إلا قدراً محدوداً أو يجهلها تماماً، ولا يمكن لدرجة نور ضئيلة أن تحقّق درجة أكبر من النور، لأنّ كلّ درجة أعلى تمثّل زيادة نوعية وكيفية على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعية لا يمكن أن يمنحها من لا يملكها، فأنت حينما تريد أن تموّل مشروعاً من مالك لا يمكنك أن تمدّه بدرجة أكبر من رصيدك الذي تملكه.
ثالثاً: إن المادّة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالاً مختلفة في درجة تطوّرها ومدى التركيز فيها. فالجُزيء من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس يمثّل شكلاً من أشكال الوجود للمادّة، ونطفة الحياة التي تساهم في تكوين النبات والحيوان (البروتوبلازم) تمثّل شكلاً أرفع لوجود المادّة، والأميبا التي تعتبر حيواناً مجهرياً ذا خليّة واحدة تمثّل شكلاً من وجود المادّة أكثر تطوّراً، والإنسان هذا الكائن الحي الحسّاس المفكّر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.
وحول هذه الأشكال المختلفة من الوجود يبرز السؤال التالي: هل الفارق بين هذه الأشكال مجرّد فارق كمّي في عدد الجزيئات والعناصر وفي العلاقات الميكانيكية بينها، أو هو فارق نوعيّ وكيفيّ يعبّر عن درجات متفاوتة من الوجود ومراحل من التطوّر والتكامل؟ وبكلمة أخرى هل الفارق بين التراب والإنسان الذي تكوّن منه عدديٌّ فقط، أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد؟
وقد آمن الإنسان بفطرته منذ طرح على نفسه هذا السؤال بأنّ هذه الأشكال درجات من الوجود ومراحل من التكامل. فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادّة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّية وإنما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجة من حياة النبات وهكذا.
غير أن الفكر المادّي قبل أكثر من قرن من الزمن خالف في ذلك إيماناً منه بوجهة النظر الميكانيكية في تفسير الكون القائلة بأنّ العالم الخارجي يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي أن عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها للبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادّة.
وعلى هذا الأساس حصرت المادّية الميكانيكية التطوّر والحركة بحركة الأجسام والجسيمات في الفضاء من مكان إلى مكان، وفسّرت أشكال المادّة المختلفة بأنها طرق شتّى لتجمّع تلك الجسيمات وتوزّعها دون أن يحدث من خلال تطوّر المادّة شيء جديد. فالمادّة لا تنمو في وجودها ولا تترقّى في تطوّرها وإنما تتجمّع وتتوزّع بطرق مختلفة كالعجينة في يدك حين تشكّلها بأشكال مختلفة وتظلّ دائماً هي العجينة نفسها دون جديد.
هذه الفرضية أوحى بها تطوّر علم الميكانيك الذي كان أول العلوم الطبيعية تحرراً وانطلاقاً في أساليب البحث العلمي، وشجّع عليها ما أحرزه هذا العلم من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكية وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتيادية على أساسها بما فيها حركات الكواكب في الفضاء. ولكنّ استمرار تطوّر العلم وامتداد أساليب البحث العلمي إلى مجالات متنوّعة أخرى أثبت بطلان تلك الفرضية وعجزها من ناحية عن تفسير كلّ الحركات المكانية تفسيراً ميكانيكياً، وقصورها من ناحية أخرى عن استيعاب كلّ أشكال المادّة ضمن الحركة الميكانيكية للأجسام والجسيمات من مكان إلى مكان. وأكّد العلم ما أدركه الإنسان بفطرته من أن تنوّع أشكال المادّة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى مكان، بل إلى ألوان من التطوّر النوعيّ والكيفيّ. وثبت من خلال التجارب العلمية أن أيّ تركيب عدديّ للجسيمات لا يمثّل حياة أو إحساساً أو فكراً، وهذا يجعلنا أمام تصوّر يختلف كلّ الاختلاف عن التصوّر الذي تقدّمه المادّية الميكانيكية، إذ نواجه في الحياة والإحساس والفكر عملية نموّ حقيقية في المادّة وتطوّراً نوعياً في درجات وجودها سواء كان محتوى هذا التطوّر النوعي شيئاً مادّياً من درجة أعلى أو شيئاً لا مادّياً.
هذه هي القضايا الثلاث:
- كلّ حادثة لها سبب.
- الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.
- اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتنوّع أشكاله كيفياً.
وفي ضوء هذه القضايا الثلاث نعرف أنا نواجه في الأشكال النوعية المتطوّرة نموّاً حقّاً أي تكاملاً في وجود المادّة وزيادة نوعية فيه، فمن حقّنا أن نتساءل من أين جاءت هذه الزيادة؟ وكيف ظهرت هذه الإضافة الجديدة مع أن لكلّ حادثة سبباً كما تقدّم؟ وتوجد بهذا الصدد إجابتان.
الإجابة الأولى: إنها جاءت من المادّة نفسها. فالمادّة التي لا حياة فيها ولا إحساس ولا فكر، أبدعت من خلال تطوّرها الحياةَ والإحساس والفكر، أي إن الشكل الأدنى من وجود المادّة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجة والأغنى محتوىً.
وهذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية المتقدّمة التي تقرّر أن الشكل الأدنى درجة لا يمكن أن يكون سبباً لما هو أكبر منه درجةً وأغنى منه محتوىً من أشكال الوجود. فافتراض أن المادّة الميّتة التي لا تنبض بالحياة تمنح لنفسها أو لمادّة أخرى الحياة والإحساس والتفكير يشابه افتراض أن الإنسان الذي يجهل اللغة الإنجليزية يمارس تدريسها، وأن درجة الضوء الباهت بإمكانها أن تعطينا ضوءاً أكبر درجة كضوء الشمس، وأن الفقير الذي لا يملك رصيداً يموّن المشاريع الرأسمالية.
الإجابة الثانية: إن هذه الزيادة التي تعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها جاءت من مصدر يتمتّع بكلّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر وهو الله ربّ العالمين سبحانه وتعالى، وليس نموّ المادّة إلا تنمية وتربية يمارسها رب العالمين بحكمته وتدبيره وربوبيته(وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الْخالِقينَ) (المؤمنون:12 ـ 14).
هذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة وتستطيع أن تعطي تفسيراً معقولاً لعملية النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب. وإلى هذا الدليل يشير القرآن الكريم في عدد من آياته التي يخاطب بها فطرة الإنسان السليمة وعقله السوي.
(أفَرَأيْتُمْ ما تُمْنُونَ. أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ). (الواقعة: 58 – 59)، (أفَرَأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). (الواقعة:63 -64)،(أفَرَأيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ. أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَها أمْ نَحْنُ الْمُنْشِئونَ) (الواقعة: 71 ـ 72)، (وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم: 20). صدق الله العليّ العظيم