الخارج والمحتوى الداخلي
تبيّن ممّا تقدّم أنّ التدبير الإلهي الحكيم يسوق الإنسان وكلّ ما يحيط به وخلق لأجله (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)17 .إلى الغاية النهائية التي قدّرت لها (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)18 فإذا عرض لهذا السير مانع يوجب الإعاقة عن الهدف (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)19. قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور، إمّا بإصلاحه، أو إزالة الجزء الفاسد منه، نظير العاهة التي تعرض بعض أجزاء البدن، فإنّه إمّا أن يصلح إن أمكن أو يقطع ويجتثّ بعملية جراحية.
كذلك في النظام العام الذي يحكم عالم التكوين، فإنّ الاُمّة إن رجعت إلى صراط الفطرة والعبودية لله تعالى، بإصلاح نفسها، فيغيّر الله حالها إلى أحسن الحال، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) 20.
(حيث يمكن أن يستفاد من الآية العموم، وهو أن بين حالات الإنسان النفسية وبين الأوضاع الخارجية نوع تلازم، سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ. فلو كان القوم على الإيمان والطاعة وشكر النعمة، عمّهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا، فيكفروا ويفسقوا، فيغيّر الله نعمه نقماً، ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا، فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا، فيغيّر الله نقمه نعماً، وهكذا)21.
أمّا إذا استمرّت الأمّة على ضلالها وخبطها، طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، وأصبحوا يحسبون أنّ الحياة الإنسانية ليست إلاّ هذه الحياة المضطربة الشقيّة التي تزاحمها أجزاء العالم المادّي، وتضطهدها النوائب والرزايا، ويحطّمها قهر الطبيعة الكونية.
من هنا حاول الإنسان أن يتسلّح بسلاح العلم، ليدفع قهر الطبيعة وحوادثها، بدل أن يرجع إلى نفسه، ليرى ما هي تلك الأسباب الحقيقية التي أدّت بالطبيعة أن تنتفض عليه، وتحوّل حياته إلى شقاء مستمرّ واضطراب وقلق دائم، فبدل أن يرجع إلى استقامة الطريق (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)22 وان تكون هذه المحن والمصائب والبلايا منبّهات للرجوع إليه تعالى: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)23 تراه قد أخذه الخيلاء والتكبّر(اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)24 فظنَّ أنّ التقدّم العلمي في مجالات الحياة المختلفة، يجعله قادراً في التغلب على السنن الإلهية التي أودعها الله تعالى في النظام الكوني، فتكون الطبيعة منقادة لأهوائه، ونسي أنّه لو اتبعته لفسدت السموات والأرض، ولكان الإنسان من أقدم أجزائها في الفساد وأسرعها في الهلاك، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)25.
قال الطباطبائي في ظل هذه الآية:
(إنّ الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام، وله في نوعيته غاية هي سعادته، وقد خطّ له طريق إلى سعادته وكماله، يناله بطيّ الطريق المنصوب إليها، نظير غيره من الأنواع الموجودة، وقد جهّزه الكون العام وخلْقته الخاصة به من القوى والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها، وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.
فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته، أعني الاعتقادات والأعمال الخاصّة، المتوسّطة بينه وبين سعادته، وهي التي تسمّى (الدين). وسنّة الحياة متعيّنة حسب اقتضاء النظام العام الكوني، والنظام الخاص الإنساني الذي نسمّيه الفطرة، وتابعة لذلك، وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30).
فسنّة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية، طريقة متعيّنة، يقتضيها النظام بالحقّ، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ، وهذا الحقّ هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة التي تحكم النظام الكوني، الذي أحد أجزائه النظام الإنساني، وتدبّره وتسوقه إلى غاياته، وهو الذي قضى به الله سبحانه، فكان حتماً مقضياً.
فلو اتّبع الحق أهواءهم، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم، لم يكن ذلك إلاّ بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه، وتبدّل العلل والأسباب غيرها، وتغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلّة متدافعة، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، وفي ذلك فساد السموات والأرض ومن فيهنّ في أنفسها، والتدبير الجاري فيها، لأنّ كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين، والخلق والأمر متّصلان غير منفصلين)26.
فتحصّل ممّا تقدّم (أنّ الإنسان كغيره من الأنواع الكونية، مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، ولأعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة، ارتباط بغيره، فإن صلحت (أي الأعمال) للكون، صلحت أجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء، وإن فسدت أفسدت الكون، وقابله الكون بالفساد، فإن رجع إلى الصلاح فبها، وإلاّ جرى على فساده، حتى إذا تعرّق (تجذّر) فيه، انتهض عليه الكون وأهلكه بهدم بنيانه وإعفاء أثره، وطهّر الأرض من رجسه)27. السید کمال الحیدری
____________
(17) الجاثية: 13.
(18) طه: 50.
(19) النجم: 42.
(20) الرعد: 11.
(21) الميزان، مصدر سابق، ج11، ص311.
(22) الجن: 16.
(23) الروم: 41.
(24) فاطر: 43.
(25) المؤمنون: 71.
(26) الميزان، مصدر سابق، ج15 ص46.
(27) الميزان، مصدر سابق، ج8 ص198.