البحث الثاني: في حقيقة التفكر وكيفية حصوله
إذا أراد الإنسان أن يتفكر فلابد له من رأسمال علمي يستند عليه في تفكيره، لأنه يحتاج إليه كحاجة التاجر إلى الرأسمال التجاري لكي يزاول عمله في السوق.
وكما أن هناك كثيراً ممن يمتلك الرأسمال التجاري ولا يتاجر فيه، فإن هناك الكثير ممن يمتلك الرأسمال العلمي ولا يستفيد منه، ومن هنا جاء الحث على التفكر وبيان أهميته وحاجة الإنسان إليه، وكيف يمكن للإنسان أن يتفكر بالطريقة الصحيحة والمثمرة مستغلاً ما لديه من معارف وعلوم. كيف يفكر الإنسان؟
بعد حصول العلم لدى الإنسان، كعلمه بالمعاد والآخرة مثلاً، يبدأ عملية تفكيره من خلال ترتيب مقدمات:
المقدمة الأولى: وهي أن يسأل نفسه هل الآخرة أدوم وجوداً أم الدنيا؟ وليس المرء بحاجة إلى أن يكون عالماً كبيراً حتى يعرف أن الآخرة هي الأدوم والأبقى، بشهادة ما يراه من محدودية هذه الدنيا وانتهائها.
المقدمة الثانية: وهي أن يسأل نفسه إذا دار الأمر بين اختيار الأبقى وجوداً وغيره، أيهما يختار ويقدم، وأيهما يترك ويؤخر؟
النتيجة: ثم إن الإنسان وبعد علمه بالمقدمتين السابقتين أي (الآخرة أبقى) و(الأبقى أولى بالاختيار والإيثار) بإمكانه أن يطبق الشكل الأول من القياس المنطقي فيحذف الطرف المتكرر أي (الأبقى) ليتوصل إلى النتيجة المطلوبة، وهي (الآخرة أولى بالاختيار والإيثار). وهذه النتيجة هي ما يختاره عقلاء البشر.
ولا يوجد عاقل يختار ويقدم المحدود والمنقطع والمنتهي على الدائم الباقي، خصوصاً وإن هذا المحدود قد قرنت لذّاته وخلطت بالألم والتعب والمشقة، وإن ما هو غير محدود قد خلصت لذّاته وصفت ولم تخلط بأي نوع من الآلام والمنغصات.
قد يقال: إن بإمكان الإنسان أن يجمع بينهما فيختار الدنيا والآخرة معاً، إلاّ أننا سنبين فيما بعد، إن شاء اللّه تعالى، أن الدنيا والآخرة ـ في أغلب الأحيان ـ ضرتان كلما اقترب الإنسان من إحداهما ابتعد عن الأُخرى، بل يمكن القول باستحالة الجمع بينهما مطلقاً إذا كانت الدنيا هي التعلق بغير اللّه، و الآخرة هي التعلق به عزّ وجلّ (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ) فإن امتلأ القلب بحب الدنيا فرغ عن حب اللّه تعالى وإن امتلأ بحب اللّه تعالى فرغ عن حب غيره.
كمثال آخر نقول: إن الإنسان بطبعه طالما يبحث عن معبِّر للرؤيا التي يراها في منامه، فعندما يرى أنه يشرب اللبن أو الماء يقال له ـ مثلاًـ بأن الماء هو الحكمة أو العلم، فللبن ظاهر وهو هذا اللبن الذي نراه ونشربه وله باطن هو الحكمة والعلم، فالظاهر إذن ممر للوصول إلى الحقيقة، كالمجاز في اللغة الذي هو ممر للوصول إلى المعنى الحقيقي.
وهكذا تكون هذه الدنيا كلها ـ وليس النوم فقط ـ هي المعبر إلى الحقيقة لا هي الحقيقة ذاتها، فهي دار الممر ومن خلالها يستطيع الإنسان الوصول إلى غايته ومقصده وهي «الدار الآخرة» التي هي دار المقر (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) وهي الحياة الحقيقية. (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). وبإمكان الإنسان أن يزاول عملية التفكير من خلال هذه المعلومات فيرتب المقدمات منها ليستخلص بعد ذلك النتيجة المطلوبة، فيقول:
كمقدمة أولى: إن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية ودار المقرّ
وكمقدمة ثانية: إن الحياة الحقيقية هي الأولى بالعمل من أجلها.
فينتج: إن الآخرة هي الأولى بالعمل من أجلها.
وهكذا فإن العاقل هو من يلتزم بهذه النتيجة فيختار الآخرة ويقدمها على الدنيا لأن العمل للممر دون المقر ولما هو زائل وغير حقيقي دون الحقيقي الباقي عمل بلا فكر، وهو عمل الجاهلين.
إن عمليتي التفكير السابقتين مصداقان من مصاديق عملية التفكير الصحيحة والتي على الإنسان أن يداوم عليها من أجل حصوله على النتائج المطلوبة التي يحتاجها ويريد الوصول إليها في حياته.